فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

سورة المدثر صلى الله عليه وسلم:
فأما سبب نزولها، فروى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث جابر بن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جأورت بِحِراء شهرا، فلما قضيت جواري، نزلتُ فاستبْطنْتُ بطن الوادي، فنوديتُ، فنظرت أمامي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر أحدا، ثم نوديتُ فرفعتُ رأسي، فإذا هو في الهواء (يعني: جبريل عليه السلام) فأقبلتُ إِلى خديجة، فقلت دثِّروني دثِّروني، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر قم فأنذر}» قال المفسرون: فلما رأى جبريل وقع مغشيا عليه، فلما أفاق دخل إلى خديجة، ودعا بماءٍ فصبّه عليه، وقال: «دثِّروني»، فدثّروه بقطيفة، فأتاه جبريل فقال: {يا أيها المدِّثر} وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو عمران، والأعمش، {المتدثِّر} بإظهار التاء.
وقرأ أبو رجاء، وعكرمة، وابن يعمر، {المدثر} بحذف التاء، وتخفيف الدال.
قال اللغويون: وأصل {المدّثِّر} المتدثر، فأدغمت التاء، كما ذكرنا في المتزمِّل، وهذا في قول الجمهور من التدثير بالثياب.
وقيل: المعنى: يا أيها المدثر بالنبوّة، وأثقالها، قال عكرمة: دُثِّرْت هذا الأمر فقم به.
قوله تعالى: {قم فأنذر} كفار مكة العذاب إن لم يُوحِّدوا {وربّك فكبِّر} أي: عظِّمه عما يقول عبدة الأوثان {وثيابك فطهِّر} فيه ثمانية أقوال.
أحدها: لا تلبسها على معصية، ولا على غدر.
قال غيلان بن سلمة الثقفي:
وإني بِحمْدِ الله لا ثوْب فاجِرٍ ** لبِسْتُ ولا مِنْ غدْرةٍ أتقنّعُ

روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: لا تكن ثيابُك من مكسب غير طاهر، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: طهر نفسك من الذنب، قاله مجاهد، وقتادة.
ويشهد له قول عنترة:
فشككْتُ بالرُّمْحِ الأصمِّ ثِيابهُ ** ليْس الكرِيمُ على القنا بِمُحرّمِ

أي: نفسه، وهذا مذهب ابن قتيبة.
قال: المعنى: طهر نفسك من الذنوب، فكنى عن الجسم بالثياب، لأنها تشتمل عليه.
قالت ليلى الأخيلية وذكرتْ إبلا:
رموْها بأثواب خِفافٍ فلا ترى ** لها شبها إلا النّعام المُنفّرا

أي: ركبوها، فرموْها بأنفسهم.
والعرب تقول للعفاف: إزارٌ، لأن العفيف كأنه استتر لما عفّ.
والرابع: وعملك فأصْلِحْ، قاله الضحاك.
والخامس: خُلُقك فحسِّنْ، قاله الحسن، والقرظي.
والسادس: وثِيابك فقصِّرْ وشمِّرْ، قاله طأووس.
والسابع: قلْبك فطهِّرْ، قاله سعيد بن جبير.
ويشهد له قول امرئ القيس:
فإنْ يكُ قدْ ساءتْكِ مِني خلِيقةٌ ** فسُلِّي ثِيابِي مِنْ ثِيابِكِ تنْسُلِ

أي: قلبي من قلبك.
والثامن: اغسل ثيابك بالماء، ونقِّها، قاله ابن سيرين، وابن زيد.
قوله تعالى: {والرُّجْز فاهْجُرْ} قرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعاصم، إِلا أبا بكر، ويعقوب، وابن محصين، وابن السميفع، {والرُّجز} بضم الراء.
والباقون: بكسرها.
ولم يختلفوا في غير هذا الموضع.
قال الزجاج: ومعنى القراءتين واحد.
وقال أبو علي: قراءة الحسن بالضم، وقال: هو اسم صنم.
وقال قتادة: صنمان: إساف، ونائلة، ومن كسر، فالرّجز: العذاب.
فالمعنى: ذو العذاب فاهجر.
وفي معنى {الرجز} للمفسرين ستة أقوال.
أحدها: أنه الأصنام، والأوثان، قاله ابن عباس.
ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والسدي، وابن زيد.
والثاني: أنه الإثم، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: الشرك، قاله ابن جبير، والضحاك.
والرابع: الذنب، قاله الحسن.
والخامس: العذاب، قاله ابن السائب، قال الزجاج: الرجزُ في اللغة: العذاب.
ومعنى الآية: اهجر ما يؤدِّي إلى عذاب الله.
والسادس: الشيطان، قاله ابن كيسان.
{ولا تمْنُنْ تسْتكْثِر} فيه أربعة أقوال.
أحدها: لا تعط عطيّة تلتمس بها أفضل منها، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، قال المفسرون: معناه: أعْطِ لِربّك وأرد به الله، فأدّبه بأشرفِ الآداب.
ومعنى {لا تمنن}: لا تعط شيئا من مالك لتُعطى أكثر منه، وهذا الأدب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليس على أحد من أمته إثم أن يهدي هدية يرجو بها ثوابا أكثر منها.
والثاني: {لا تمنن} بعملك تستكثره على ربك، قاله الحسن.
والثالث: لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، قاله مجاهد.
والرابع: لا تمنن على الناس بالنُّبُوّة لتأخذ عليها منهم أجرا، قاله ابن زيد.
{ولربك} فيه أربعة أقوال.
أحدها: لأجل ربك.
والثاني: لثواب ربك.
والثالث: لأمر ربك.
والرابع: لوعْدِ ربِّك {فاصبر} فيه قولان.
أحدهما: على طاعته وفرائضه.
والثاني: على الأذى والتكذيب.
قوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور} أي: نفخ في الصور.
وهل هذه النفخة هي الأولى أو الثانية؟ فيه قولان {فذلك يومئذ يوم عسير} أي: يعسر الأمر فيه {على الكافرين غير يسير} غير هيِّن {ذرْني} قد شرحناه في [المزمل: 11] {ومن خلقتُ} أي: ومن خلقته {وحيدا} فيه قولان.
أحدهما: خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، قاله مجاهد.
والثاني: خلقته وحدي لم يشْركني في خلْقِهِ أحدٌ، قاله الزجاج.
قال ابن عباس: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا.
فإِنك أتيت محمدا تتعرّض لما قِبله، فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنّك منكر له، قال: وماذا أقول؟ (فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، فوالله ما يشبهها الذي يقول، والله إن لقوله حلأوة، وإن عليه طلأوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو ولا يُعلى).
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه.
فقال: هذا سحر يؤثر: يأثره عن غيره، فنزلت {ذرني ومن خلقت وحيدا..}. الآيات كلُّها.
وقال مجاهد: قال الوليد لقريش: إن لي إِليكم حاجة فاجتمعوا في دار الندوة، فقال: إنكم ذوو أحساب وأحلام، وإن العرب يأتونكم، وينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا على شيء واحد.
ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول إِنه شاعر، فعبس عندها، وقال: قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر.
فقالوا: نقول: إنه كاهن، قال: إِذن يأتونه فلا يجدونه يحدث بما يحدث به الكهنة، قالوا: نقول: إِنه مجنون، قال: إذن يأتونه فلا يجدونه مجنونا.
فقالوا: نقول: إنه ساحر.
قال: وما الساحر؟ قالوا بشر يحبِّبون بين المتباغضين، ويبغِّضون بين المتحابين، قال: فهو ساحر، فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إِلا قال: يا ساحر، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر} إِلى قوله تعالى: {إنْ هذا إِلا سحر يؤثر} وذكر بعض المفسرين: أن قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} منسوخ بآية السيف، ولا يصح.
قوله تعالى: {وجعلت له مالا ممدودا} في معنى الممدود ثلاثة أقوال.
أحدها: كثيرا، قاله أبو عبيدة.
والثاني دائما، قاله ابن قتيبة.
والثالث: غير منقطع، قاله الزجاج.
وللمفسرين في مقداره أربعة أقوال.
أحدها: غلّة شهر بشهر قاله عمر بن الخطاب.
والثاني: ألف دينار، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، قال الفراء: نرى أن الممدود: جُعِل غاية للعدد، لأن (ألف) غاية للعدد يرجع في أول العدد من الألف.
والثالث: أربعة آلاف، قاله قتادة.
والرابع: أنه بستان كان له بالطائف لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا، قاله قاتل.
قوله تعالى: {وبنين شهودا} أي: حضورا معه لا يحتاجون إلى التصرُّف والسّفر فيغيبوا عنه.
وفي عددهم أربعة أقوال.
أحدها: عشرة، قاله مجاهد، وقتادة.
والثاني: ثلاثة عشر، قاله ابن جبير.
والثالث: اثنا عشر، قاله السدي.
والرابع: سبعة، قاله مقاتل.
{ومهّدت له تمهيدا} أي: بسطت له العيش، وطول العمر، {ثم يطمع أن أزيد} فيه قولان.
أحدهما: يطمع أن أدخله الجنة، قاله الحسن.
والثاني: أن أزيده من المال والولد، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {كلا} أي: لا أفعل، فمنعه الله المال والولد حتى مات فقيرا {إنه كان لآياتنا عنيدا} أي: معاندا.
وفي المراد بالآيات هنا ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه القرآن، قاله ابن جبير.
والثاني: الحق، قاله مجاهد.
والثالث: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله السدي.
قوله تعالى: {سأُرْهِقُه صعُودا} قال الزجاج: سأحمله على مشقة من العذاب.
وقال غيره: سأكلِّفه مشقة من العذاب لا راحة له منها، وقال ابن قتيبة: (الصّعود): العقبة الشاقة، وكذلك (الكؤود).
وفي حديث أبي سعيد عن نبي الله صلى الله عليه وسلم «في قوله تعالى: {سأرهقه صعودا} قال: جبل من نار يكلّف أن يصعده، فإذا وضع رجله عليها ذابت، فإذا رفعها عادت. يصعد سبعين خريفا، ثم يهوي فيه كذلك أبدا»، وذكر ابن السائب، أنه جبل من صخرة ملساء في النار، يكلّف أن يصعدها حتى إِذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلّف أن يصعدها، فذلك دأبه أبدا، يجذب من أمامه سلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة.
قوله تعالى: {إنّه فكّر} أي: تفكر ماذا يقول في القرآن {وقدّر} القول في نفسه {فقُتِل} أي: لعن {كيف قدّر ثم قُتِل كيف قدّر} أي: لُعِن على أي حال قدّر ما قدّر من الكلام.
وقيل: {كيف} هاهنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ.
وإنما كرر تأكيدا {ثم نظر} في طلب ما يدفع به القرآن، ويردُّه {ثم عبس وبسر} قال اللغويون: أي: كرّه وجْههُ وقطّب.
يقال: بسر الرجل وجهه، أي: قبضه.
وأنشدوا لتوْبة:
وقدْ رابني مِنْها صُدُودٌ رأيْتُهُ ** وإِعْراضُها عن حاجتي وبُسُورُها

قال المفسرون: كرّه وجهه، ونظر بكراهية شديدة، كالمهتمّ المتفكِّر في الشيء {ثم أدبر} عن الإيمان {واستكبر} أي: تكبر حين دعي إليه {فقال إنْ هذا} أي: ما هذا القرآن {إلا سحر يؤثر} أي: يُروى عن السّحرة {إنْ هذا إِلا قول البشر} أي: من كلام الإنس، وليس من كلام الله تعالى، فقال الله تعالى: {سأُصليه سقر} أي: سأدخله النار.
وقد ذكر {سقر} في سورة [القمر: 48] {وما أدراك ما سقر} لِعِظم شأْنِها {لا تُبقي ولا تذر} أي: لا تبقي لهم لحما إلا أكلته، ولا تذرهم إذا أُعيدوا خلقا جديدا {لواحةٌ} أي: مغيِّرة.
يقال: لاحته الشمس، أي: غيّرتْه وأنشدوا:
يا ابْنة عمِّي لاحني الهواجر

وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، وابن أبي عبلة، {لواحة} بالنصب.
وفي البشر قولان.
أحدهما: أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة، وهذا قول مجاهد، والفراء، والزجاج.
والثاني: أنهم الإنس من أهل النار، قاله الأخفش، وابن قتيبة، في آخرين.
قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} وهم خُزّانها، مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كفّ أحدهم مثل ربيعة ومضر.
قد نزعت منهم الرحمة.
فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل: يخوِّفكم محمد بتسعة عشر، أما له من الجنود إلا هؤلاء! أيعجز كل عشرة منكم أن يبطش بواحد منهم، ثم يخرجون من النار! فقال أبو الأشدين: قال مقاتل: اسمه: أسيد بن كلدة.
وقال غيره: كلدة بن خلف الجمحي: يا معشر قريش: أنا أمشي بين أيديكم فأرفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، فندخل الجنة، فأنزل الله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إِلا ملائكة} لا آدميين، فمن يطيقهم ومن يغلبهم؟! {وما جعلنا عِدّتهم} في هذه القِلّة {إلا فتنة} أي: ضلالة {للذين كفروا} حتى قالوا ما قالوا {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} أن ما جاء به محمد حق، لأن عِدّتهم في التوراة تسعة عشر {ويزداد الذين آمنوا} من أهل الكتاب {إِيمانا} أي: تصديقا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ وجدوا ما يخبرهم موافقا لما في كتابهم {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون} أي: ولا يشك هؤلاء في عددِ الخزنة {وليقول الذين في قلوبهم مرض} وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه النفاق، ذكره الأكثرون.
والثاني: أنه الشك، قاله مقاتل.
وزعم أنهم يهود أهل المدينة، وعنده أن هذه الآية مدنية.
والثالث: أنه الخلاف، قاله الحسين بن الفضل.
وقال: لم يكن بمكة نفاق.
وهذه مكية.
فأما {الكافرون} فهم مشركو العرب {ماذا أراد الله} أي: أي شيء أراد الله {بهذا} الحديث والخبر {مثلا} والمثل يكون بمعنى الحديث نفسه.
ومعنى الكلام: يقولون: ما هذا من الحديث {كذلك} أي: كما أضلّ من أنكر عدد الخزنة، وهدى من صدّق {يُضِلُّ الله من يشاء ويهدي من يشاء} وأُنزل في قول أبي جهل: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار.
وذلك أن لكل واحد من هؤلاء التسعة عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلا الله.
وذكر المأوردي في وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر قولا محتملا، فقال: التسعة عشر: عدد يجمع أكثر القليل، وأقل الكثير، لأن الآحاد أقل الأعداد، وأكثرها تسعة، وما سوى الآحاد كثير.
وأقل الكثير: عشرة، فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير، وأكثر القليل.
ثم رجع إلى ذكر النار فقال تعالى: {وما هي إلا ذكرى} أي: ما النار في الدنيا إلا مذكِّرة لنار الآخرة {كلاّ} أي: حقا {والقمر}
والليل إذْ أدبر} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {إذا أدبر} وقرأ نافع، وحمزة، وحفص، والفضل عن عاصم، ويعقوب {إذ} بسكون الذال من غير ألف بعدها {أدبر} بسكون الدال وبهمزة قبلها.
وهل معنى القراءتين واحد، أم لا؟ فيه قولان.
أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد.
يقال: دبر الليل، وأدبر.
ودبر الصيف وأدبر، هذا قول الفراء، والأخفش، وثعلب.
والثاني: أن
{دبر} بمعنى خلف، {وأدبر} بمعنى وّلى.
يقال: دبرني فلان: جاء خلفي، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة.
قوله تعالى: {إذا أسفر} أي: أضاء وتبيّن {إنها} يعني: سقر {لإحدى الكُبر} قال ابن قتيبة: الكُبر، جمع كبرى، مثل الأول، والأولى، والصُّغر، والصُّغْرى.
وهذا كما يقال: إنها لإحدى العظائم.
قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيءٍ أوهى منها.
وقال ابن السائب، ومقاتل: أراد بالكُبر: دركات جهنم السبعة.
قوله تعالى: {نذيرا للبشر} قال الزجاج: نصب {نذيرا} على الحال.
والمعنى: إِنها لكبيرة في حال الإنذار.
وذكّر {النذير}، لأن معناه معنى العذاب.
ويجوز أن يكون {نذيرا} منصوبا متعلقا بأول السورة، على معنى: قم نذيرا للبشر.
قوله تعالى: {لمن شاء منكم} بدل من قوله تعالى: {للبشر}، {أن يتقدّم أو يتأخّر} فيه أربعة أقوال.
أحدها: أن يتقدّم في طاعة الله أو يتأخّر عن معصيته، قاله ابن جريج.
والثاني: أن يتقدّم إلى النار، أو يتأخّر عن الجنة، قاله السدي.
والثالث: أن يتقدّم في الخير، أو يتأخر إلى الشر، قاله يحيى بن سلام.
والرابع: أن يتقدّم في الإيمان، أو يتأخّر عنه.
والمعنى: أن الإِنذار قد حصل لكل أحد ممن أقر أو كفر.
قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: كل نفس بالغةٍ مُرتهنةٌ بعملها لتُحاسب عليه {إلا أصحاب اليمين} وهم أطفال المسلمين، فإنه لا حساب عليهم، لأنه لا ذنوب لهم، قاله علي، واختاره الفراء.
والثاني: كل نفس من أهل النار مُرتهنةٌ في النار، إلا أصحاب اليمين، وهم المؤمنون، فإنهم في الجنة، قاله الضحاك.
والثالث: كل نفس مرتهنةٌ بعملها لتحاسب عليه إلا أصحاب اليمين، فإنهم لا يحاسبون، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: {يتساءلون عن المجرمين} قال مقاتل: إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار: {ما سلككم في سقر} قال المفسرون: سلككم بمعنى: أدخلكم.
وقال مقاتل: ما حبسكم فيها؟ {قالوا لم نك من المصلين} لله في دار الدنيا {ولم نك نطعم المسكين} أي: لم نتصدّق لله {وكنا نخوض مع الخائضين} أهل الباطل والتكذيب {وكنا نكذِّب بيوم الدين} أي: بيوم الجزاء والحساب {حتى أتانا اليقين} وهو الموت.
يقول الله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} وهذا إنما جرى بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء والمؤمنين.
وهذا يدل على نفع الشفاعة لمن آمن {فما لهم عن التذكرة معرضين} يعني: كفار قريش حين نفروا من القرآن والتذكير بمواعظه.
والمعنى: لا شيء لهم في الآخرة إِذْ أعرضوا عن القرآن فلم يؤمنوا به، ثم شبّههم في نفورهم عنه بالحُمُر، فقال تعالى: {كأنهم حُمُرٌ مُسْتنْفِرة} قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم بفتح الفاء.
والباقون: بكسرها.
قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: من قرأ بفتح الفاء أراد: مذعورة، استنفرت فنفرت.
ومن قرأ بكسر الفاء أراد: نافرة.
قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حُمُرٌ مستنفرة.
وناس من العرب يكسرون الفاء.
والفتح أكثر في كلام العرب.
وقرأءتنا بالكسر.
أنشدني الكسائي:
اِحْبِسْ حِمارك إنّه مُسْتنْفِرُ ** في إثْرِ أحْمِرةٍ عمدْن لِغُرّبِ

و{غرّب} موضع.
وفي الـ: {قسورة} سبعة أقوال.
أحدها: أنه الأسد، رواه يوسف بن مهران، عن ابن عباس.
وبه قال أبو هريرة، وزيد بن أسلم، وابنه.
قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينتْ الأسد هربتْ منه، فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم هربوا منه، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة، والزجاج.
قال ابن قتيبة: كأنّه من القسْرِ والقهْرِ، فالأسد يقهر السباع.
والثاني: أن القسورة: الرماة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وابن كيسان.
والثالث: أن القسورة: حِبال الصيادين، رواه عكرمة، عن ابن عباس.
والرابع: أنهم عُصبُ الرِّجال، رواه أبو حمزة عن ابن عباس.
واسم أبي حمزة: نصر بن عمران الضبعي.
والخامس: أنه رِكْز الناس، وهذا في رواية عطاء أيضا عن ابن عباس.
ورِكْز الناس: حِسُّهم وأصواتهم.
والسادس: أنه الظُّلْمة والليل، قاله عكرمة.
والسابع: أنه النّبْل، قاله قتادة.
قوله تعالى: {بل يريد كل امرئ منهم أن يُؤتى صُحُفا مُنشّرة} فيها ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سرّك أن نتّبِعْك، فليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتِّباعك، قاله الجمهور.
والثاني: أنهم أرادوا براءة من النار أن لا يعذّبوا بها، قاله أبو صالح.
والثالث: أنهم قالوا: كان الرجل إذا أذنب في بني إسرائيل وجده مكتوبا إذا أصبح في رُقعة.
فما بالنا لا نرى ذلك؟ فنزلت هذه الآية، قاله الفراء.
فقال الله تعالى: {كلا} أي: لا يؤتون الصُّحُف {بل لا يخافون الآخرة} أي: لا يخْشوْن عذابها.
والمعنى: أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة {كلاّ} أي: حقا.
وقيل: معنى {كلا} ليس الأمر كما يريدون ويقولون {إنه تذْكِرةٌ} أي: تذكير وموعظة {فمن شاء ذكره} الهاء عائدة على القرآن فالمعنى: فمن شاء أن يذكر القرآن ويتعظ به ويفهمه، ذكره.
ثم رد المشيئة إلى نفسه فقال تعالى: {وما يذكرون إلا أن يشاء الله} أي: إلا أن يريد لهم الهدى {هو أهل التقوى} أي: أهل أن يُتّقى {وأهل المغفرة} أي: أهل أن يغفِر لمن تاب.
روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه تلا هذه الآية، فقال: قال ربكم عز وجل: أنا أهل أن أُتقى، فلا يشرك بي غيري. وأنا أهل لمن اتّقى أن يشرك بي غيري أن أغفر له». اهـ.